رياضة

المحللون الجدد: حجر في مياه الكرة المصرية الراكدة

كيف بدأت ظاهرة تحليل الأداء، وما الحاجة لظهورها، وكيف أثرت على وعي اللاعبين والجمهور، وأي أمل تبعثه وما وراءها من أفكار في رفع جودة الدوري المصري؟

future على اليمين: محمد بدوي مدير المحتوى في شركة Peak Analysis لتحليل الأداء، ومحمد علاء، رئيس محللي الأداء في نادي الزمالك

في انتظار صافرة النهاية، يجلس الجنرال مدحت شلبي وأصدقاؤه من ظرفاء اللاعبين القدامى في الأستوديو يجهزون حديثًا طويلًا يعينهم على ملء الهواء لساعة أو ساعتين عقب نهاية المباراة.

في خضم الحديث عن التغييرات النمطية والتلر المسيء؛ يقتحم المجلس شاب أكثر ميلًا للصغر منه للكبر، لم يركل الكرة يومًا في ملاعب القناة والمحلة، ولا يظن أنه يستطيع أن يفعلها في ليلة مطيرة في برج العرب.

عرَّف نفسه بأنه من جيل المحللين الجدد، وتحدث بلغة لا صلة لها بلغة المحللين القدامى واللاعبين المعتزلين، كلها إحصاءات وأرقام ومصطلحات توحي بالجدية، وتتضمن حديثًا عن ديناميكية الضغط وفك التكتلات واللعب بين الخطوط وغيرها.

الآن، ينقسم الأستوديو التحليلي الذي ابتكرناه في عالم الخيال، بين محللين قدامى وجدد يتناظرون، لكل منهم أسلوب وطريقة. الطريقة القديمة يعرفها الناس بالطبع، لا سيما وقد سادت لعقود طويلة ولا تزال، ولكن ما عساها تكون الطريقة الجديدة، كيف بدأت وما الحاجة لظهورها، وكيف أثرت على الوعي الكروي للاعبين والجمهور؟

بالإسقاط على التجربة المصرية، فأي أمل تبعثه تلك الظاهرة وما وراءها من أفكار في رفع جودة الدوري المصري كمنافسة وكأفراد، وأيضًا ما العوائق التي تقف في طريق انتشار تلك التجربة وتقدمها؟

حجر في الماء الراكد

يميل البعض إلى التفريق العام بين مصطلحين، يحدث الخلط بينهما، وهما: الناقد الرياضي Pundit، والمحلل الرياضي Analyst. لكن تلك الفوارق تذوب عبر وسيط النقل للجمهور؛ لأن أصل مادة المحتوى المقدم واحدة تقريبًا. ويكمن الاختلاف فقط في صياغة تلك الأفكار. وعليه؛ فحديثنا هنا يتجاوز المسمى الوظيفي، ويقف على النهج والطريقة بشكل عام.

يرى جيمي كاراغر لاعب ليفربول السابق وأحد أشهر اللاعبين الذين سلكوا مسلك التحليل عبر قنوات النقل الرياضي التلفزيوني العالمي، أن جمهور الكرة صار أكثر ميلًا للتحليل وحرصًا على المعرفة. ولا يقتصر ذلك على الفرق التي يشجعونها فحسب، بل المعرفة الكروية بشكل عام.

أضحت مصادر المعرفة في كل مكان، ويمكن بضغطة زر أو لمسة شاشة التحقق من الإحصاءات والنتائج حول اللاعبين وأرقامهم والمدربين وأفكارهم والإدارات وتخطيطاتها. وبالتالي لم يعد بإمكان المحللين القدامى خداع الجمهور بالاختباء خلف الجمل المحفوظة والقصص المبتذلة وإهمال البحث الجاد والتحضير الجيد.

وربما كان ذلك الحرص العالمي على المعرفة كامنًا منذ وقت بعيد، ولم يسمع له صدى إلا مع الثورة التحليلية التلفزيونية، التي يتفق على أن قائدها جاري نيفيل، لاعب مانشستر يونايتد السابق. قدم نيفيل للمرة الأولى عبر شبكة تلفزيون سكاي، موسم 2011/2012 نموذجًا مغايرًا تمامًا لما اعتاده الجمهور من المحللين الرياضيين آنذاك.

يقر ليام روسينر لاعب برايتون المعتزل الذي عمل محللًا ومدربًا لبعض الوقت، بأن ظهور نيفيل رفع من معايير البرامج التلفزيونية الرياضية، بخاصة في ما يتعلق بالتحليل التكتيكي للمباريات.

وأصبح لزامًا بعدها على المحلل أن يشرح ما يحدث في الملعب ولماذا يحدث ولأي نتيجة يفضي. بالاعتماد بشكل أساسي على البحث والتحضير الجيد للمباريات، وليس بالاعتماد على الخبرة والحدس وفقط.

ويرجع مات كيرتس المنتج الرياضي بقنوات BT، سبب الانغماس المضطرد في عالم التحليل، لدرجة سعي البعض للحصول على درجات علمية وإجازات أكاديمية فيه؛ إلى العصر الذهبي الذي تعيشه تلك المهنة في الإذاعة والتلفزيون، والتنافس الشديد بين الراغبين في الاشتغال بها، بعدما أصبح لها سياق علمي ممنهج.

ولكن.. من يهتم بذلك حقًا؟

الجمهور بالطبع، الذي توجه له تلك اللعبة بالأساس!

يذهب مايكل كوكس الكاتب الرياضي المعروف، مذهب كاراغر في الاعتقاد أن المنتجين والمذيعين صاروا أكثر إدراكًا لوجود قاعدة جماهيرية تحب ذلك الجانب الجاد من التحليل وتكلف به، ليس فقط بسبب متعة الحديث عن الكرة والتعرف على فرقهم عن قرب وإنما أيضًا لمتعة التعلم في العموم.

وقد يثير دهشة البعض أن اللاعبين أنفسهم يهتمون حقًا. بل يحرص معظمهم على متابعة آراء المحللين بعد المباراة، خصوصًا الصغار منهم الذين يمكنهم تحصيل استفادة حقيقية وتحسن ملحوظ في جوانب لعبهم، من خلال التحليلات الجادة. والنماذج كثيرة على إفادة اللاعبين من تلك الآراء، إن اعتمدت على بحث جاد وصِيغت بأسلوب لائق.

مثلًا، في بدايات موسم 2020/2021، وجه جيمي كاراغر في أحد تحليلاته نقدًا لجيمس ماديسون لاعب نادي ليستر سيتي حينها، ناصحًا إياه بمحاولة الاقتراب أكثر من المرمى لتتحسن أرقامه، ويضمن مكانه مع منتخب إنجلترا. ليظهر ماديسون عبر لقاء صحفي، ويعترف أنه أخذ نصيحة كاراغر بجد، واستدعى مدربه ومحلل الأداء، ليجد طريقة تمكنه من تحسين أدائه وإحراز مزيد من الأهداف.

بل إن بعض اللاعبين مثل حراس المرمى يجدون عزاء في وجود محللين جادين يظهرون بشكل دائم عبر شاشات التلفاز، يحملون عنهم أعباء الأخطاء التي تلقى على كواهلهم من دون أي سياق أو معرفة، من الجمهور والمحللين على حد سواء.

يثير ذلك حنق ريتش لي حارس المرمى السابق لناديي برينتفورد وواتفورد الذي يرى أن هنالك حاجة ماسة لمحللين متخصصين في حراسة المرمى، لا يتبنون آراء غير صحيحة بناء على لحظات فردية من الإجادة أو التقاعس، وإنما من خلال دراسة سياق اللعبة بأكمله، ومن ثم انعكاساته على حارس المرمى.

من هذا المنطلق، كيف يمكن إسقاط ذلك على التجربة المصرية؟

في مصر البلد الذي تحوز فيه كرة القدم شعبية كاسحة، دائمًا ما كانت هناك أحلام جامحة منذ الطفولة، في ما يتعلق بكرة القدم والارتباط بها مهنيًا عبر ممارستها بشكل احترافي أو الانتظام في سلك التدريب والإدارة الفنية بعد ذلك.

كم صديقًا حريفًا تعرف، تخلى عن حلمه بعد سنوات من الاختبارات والوعود بفرصة لا تأتي أبدًا؟! هذا واقع ممارسة كرة القدم الذي لا يخفى على أحد.

أما أحلام التدريب والقيادة؛ فيرى محمد علاء رئيس محللي الأداء في نادي الزمالك المصري، في حديثه لـ«كروم»، أنها تتحطم بقسوة على صخرة الشروط والأحكام المستحيلة التي وضعها الاتحاد المصري لمنح الرخص التدريبية للمدربين المصريين. حتى ظهر بديل جيد نوعًا ما.

لاح في الأفق منصب يمكن الوصول إليه بسهولة عكس منصب المدرب وهو منصب المحلل. الذي لا يحتاج صاحبه لأن يكون لاعبًا سابقًا حتى تتاح له فرصة الظهور عبر التلفزيون أو العمل داخل ناد في الدوري الممتاز.
— محمد علاء، رئيس محللي الأداء في نادي الزمالك

الأمر الذي ينطبق على علاء نفسه، والذي ظهر عبر التلفزيون أكثر من مرة، قبل أن يقدم خدماته التحليلية لأحد قطبي الكرة في مصر نادي الزمالك.

تلك الخطى الحالمة لذلك الجيل، تحولت إلى واقع أثره ملموس، بإنشاء أول شركة مصرية متخصصة في تحليل وتطوير الأداء الفردي للاعبين: Peak Analysis.

في حديث خاص مع «كروم» تحدث محمد بدوي مدير المحتوى في Peak Analysis عن بداية الشركة التي أتت بثقافة عدها كثيرون من أطراف الصناعة دخيلة وغير مجدية.

حرصنا منذ البداية على تقديم خدماتنا للأفراد لا المؤسسات؛ فالمؤسسات قليلة والأفراد كثر. وتلك المؤسسات منغلقة على نفسها تقاوم أبسط تغيير بكل شراسة. أما الأفراد فيمكن تغيير قناعاتهم إذا ما أتيحت الفرصة المناسبة والمنطق المناسب.
— محمد بدوي مدير المحتوى في شركة Peak Analysis

لكن من كان ليخاطر بتجربة خدمة لا يقتنع بها سوى أصحابها ولا يرجح كفتها أي تطبيق عملي؟!

يجيب بدوي، بعد مجهود مضن وسعي حثيث، قيضت لتلك التجربة أسباب البدء، مع وكيل لاعبين استطاع إقناع أربعة لاعبين في الدوري الممتاز بالتجربة، وهم: خالد عبدالفتاح لاعب سموحة، ومحمد عادل لاعب الإسماعيلي، ومحمود الجزار ومحمود الشبراوي لاعبا الجونة.

بدأت انعكاسات تحليل الأداء الفردي تظهر على جودة الأفراد؛ إذ أنهى خالد عبدالفتاح اللاعب المغمور في سموحة وقتها الموسم بوصفه واحدًا من أفضل أظهرة الدوري، لينتقل بعدها للنادي الأهلي على سبيل الإعارة ثم بشراء عقد انتقاله الدائم.

ومضت Peak في رحلتها تجذب اللاعبين من الأندية والمستويات كافة، حتى أصبح على رأس قائمة المتمتعين بخدماتها عدد من لاعبي قطبي الكرة في مصر مثل كريم فؤاد وحسين الشحات وقلبي الدفاع محمد عبدالمنعم وحسام عبدالمجيد.

يختلس علاء الوقت ليحدثنا من معسكر نادي الزمالك استعدادًا لنهائي الكونفدرالية، في الوقت ذاته الذي تدخل Peak عامها الرابع وتستعد لإطلاق موقعها الإلكتروني الخاص، ويبدو أن المستقبل يحمل إشراقة من نوع ما.

ولكن.. كيف ستصمد تلك التجارب أمام ما يواجهها من عوائق؟

تمامًا كما كانت رغبات الصغار في اقتحام مجال الكرة بوصفهم لاعبين، تجد من يغذيها بالأوهام والوعود الكاذبة، بضمان مقعد في أحد الأندية الكبرى إن استطاعت الأسرة تأمين مبلغ مالي معتبر.

يرى علاء أن الأمر ذاته يتكرر مع الشباب الذين يعتقدون أن أملهم الوحيد في اقتحام ذلك المجال في العمل بوصفهم محللين. يتلقف تلك الآمال مجموعة ممن يفتقرون للمنهج العلمي الصحيح من معدي البرامج وضيوفها والكيانات التي تستغل حاجة هؤلاء الشباب، وتبيع لهم الوهم.

يروي لنا بدوي ما اختبره من معوقات تكشف ضحالة البيئة الرياضية في مصر كرويًا وإعلاميًا من خلال تجربة Peak:

يمارس وكيل اللاعبين دور السمسار أكثر من دور الناصح المخلص، ولا يهمه خطوة لاعبه التالية إن كانت للأمام أو الخلف، المهم أن يحصل عمولة ترضيه. ويعي اللاعبون أنفسهم هذا الدور فلا يتعاقد معظمهم مع وكلاء بالأساس. مما يضيف عقبة في طريق الوصول إليهم ابتداءً، غير عقبات الفكر والتعالي التي يعاني منها شريحة كبيرة من اللاعبين المصريين.
— محمد بدوي

تتضافر تلك العقبات معًا لتجعل ممارسة مهنة التحليل بطابعها الجاد في مصر كالنحت على الحجر. وفي الوقت الذي ينشغل فيه المهووسون بكرة القدم من لاعبين ومحللين ومدربين في أوروبا، بأدق التفاصيل؛ ما زال أصحاب القرار الرياضي في الأندية والتلفزيون يتجادلون في جدوى الأمر من عدمه.

والحل؟

يؤكد بدوي، أنه يجب أن يتقبل الجيل الجديد صعوبة المعركة، لأن صوت الجهل عال يصم الآذان، ولا حيلة لنا سوى أن نوصل صوتنا للناس، بأن نتحدث أكثر ونكتب أكثر ونعمل أكثر ونترك أثرنا يحدث أكبر ضجة ممكنة.

# رياضة # كرة قدم # تحليل الأداء # الدوري المصري

جوارديولا يمدح خصومه: هكذا أصبحت التيكي تاكا مذهباً
الخسارة كنز: هل تجعلك الهزيمة خفيف الظل؟
المقبرة الملكية: هل يحمي ريال مدريد المواهب أم يدفنها؟

رياضة